الأرض عندما تتنكّر في هيئة إنسان | أرشيف

ناجي العلي (1936 - 1987)

 

المصدر: «مجلّة الآداب».

الكاتب (ة): أحمد مطر.

زمن النشر: 1 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2002.

 


 

في ظهيرة يوم صيفيّ من أيّار عام 1986، اجتمعنا على مائدة الغداء في منزلي، وكان باب الصالة مشرعًا بوجه الحديقة المجنونة، حيث الأعشاب الّتي أهملت قصّها قد استطالت بوحشية عاتية حتّى أصبحت قطعة من الأدغال. وكانت دفعات الهواء المتأنّيّة تغلغل أصابعها فيها، مسرّحة هاماتها بتموّجات متصاعدة، باعثة وشوشة عميقة موحية.

كان ناجي يحدّق فيها مستغرقًا.

قلت في ما يشبه الاعتذار: "لم أجد وقتًا لقصّها"، لكنّه هتف باستنكار: "ولماذا تقصّها؟ هي هكذا أجمل. انظُرْ إليها. إنّها تصرخ بكلّ براءة الطبيعة. أتعرف كم أحبّ هذا المنظر؟ أودّ الآن أن أنطلق راكضًا خلالها وكأنّني في الأحراش. هكذا أشعر بعذوبة الأرض وهي على فطرتها. إنّها غير الأرض الخارجة من صالون التزيين، والجالسة حسب قواعد الإتيكيت". قلت له ضاحكًا: "اغتنم الفرصة إذن قبل زوالها، وقُمْ فاركض خلالها بعد الغداء"، ضغط على يدي ضغطة متوسّلة: "لا تقصّها".

لم يكن ممكنًا، بالطبع، أن تبقى هذه الأعشاب الطفيليّة دون قصّ. لكنّني كنت أفهم شعور صاحبي جيّدًا، لعلّي كنت مثله مغرمًا بمنظرها المتوحّش ذاك. لهذا، فقد أحسست – ساعتها – بأنّ نبرته الّتي كانت دفاعًا حارًّا عن أعماقه، إنّما هي دفاع ضمنيّ عن أعماقي أنا.

يَفْهم هذا الشعور مَنْ تفتّحت عيناه على الخضرة العارمة المتدفّقة على رسلها في الحقول، ومَنْ غاصت رجلاه في طين البساتين، ومَنْ امتلأت رئتاه برائحة التراب بعد المطر. قد يبدو الأمر صيغة شعريّة للتعبير عن الارتباط بالأرض، لكنّني – كما عرفت صاحبي – أمنح نفسي حقّ القول بيقين إنّ ناجي كان هو نفسه صيغة شرعيّة للتعبير عن الأرض ذاتها، لا مَوْردَ هنا للتشبيه أو الكناية أو الاستعارة، حيث يسقط الفرق بين أن يكون المرء مترعًا بروح الأرض، وبين أن تكون الأرض مشبعة بروح المرء.

إنّ ناجي بهذا الوصف، هو بحقّ صورة الأرض عندما تتنكّر بهيئة إنسان.

 

أسماء مترادفة

كان بسيطًا، طيّبًا، عميقًا، عنيدًا، صابرًا، ثرّ العطاء، وهل تلك إلّا انعكاسات شظايا مرآة الأرض؟

كلّ شيء كان ينغرس في أعماقه إنّما يعود ليتفجّر على ’صفحته‘ بشكله الأصليّ، دون مواربة أو مجاملة أو تجميل. مثلما تُبرز الأرض محتوى بذور الأشياء، كان ناجي يُبرز محتوى الكائنات المستقرّة في أعماقه بهيئتها، حيث لا يمكن لأيّ شيطان أن يغطّي اللعنة الملتصقة بجبينه بمساحيق العفو أو بطلاء المغفرة.

خذْ أيّ لوحة لناجي، وتأمّلها، إنّك لن ترى إلّا نباتًا طبيعيًّا؛ هو بسيط لكنّه أصيل، مقتصد لكنّه غنيّ. نبات لم يستَعِرْ بذوره من أحد، ولم يستورد سمادًا من أحد، ولم يطلب سقاية من أحد. اللوحة تَشْخص من أرض الصفحة نسيج وحدها، لا تحمل غير ملامحها. شجرة هي الأرض والأرض هي ناجي.

أكان اتّفاقًا أن يولد ناجي في قرية اسمها ’الشجرة‘؟ تلك الشجرة الطيّبة أنبتت شجرة طيّبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها.

مَنْ لمْ يَرَ ناجي، بإمكانه أن يراه متى شاء في رسومه؛ فناجي ورسومه والأرض أسماء مترادفة لشيء واحد: صورة شجرة الأرز في العلم اللبنانيّ تضرب بجذورها في الأرض، رغم أنّها مجرّد رسم لقماش على ورق؛ إنّها روح ناجي الّتي تطبع المستحيل بطابعها الممكن؛ سارية العلم النابتة في الأرض، تنفجر عن غصن والغصن يتفجّر عن براعم وأوراق وراية، رغم أنّ السارية خشبة ميّتة، ذلك لأنّ كلّ ما ينبت في الأرض هو عند ناجي، حيّ ومُورق، وبشارة بالميلاد حتّى لو كان حديدًا.

إنّ الموجة المرتطة بالشاطئ لا تعود إلى البحر، بل تتحوّل – عنده – إلى يدين تتشبّثان بالأرض.

والعربيّ الزاحف نحو ’النبعة‘ هو كائن من الطين اليابس المتكسّر؛ هو الأرض نفسها عندما تظمأ. أمّا اللافتة المشيرة إلى طريق النبعة، فيكفيها الاسم المخطوط فوقها لكي تبرعم وتُورِقْ... لا بدّ لها أن تورق... أليست مزروعة في الأرض؟

عندما تقتلع الجرّافة الإسرائيليّة تراب الأرض لإقامة المستوطنات لشذّاذ الأفّاق، يظلّ الفلسطينيّ متشبّثًا بقطعة التراب مواصلًا غرس شجرته بإصرار وعناد، فوق رافعة الجرافة.

أطفال ناجي يصنعون دبّاباتهم بالحجارة، يرجمون الغاصب بالحجارة، وكومة حجارتهم نفسها تكتب بنفسها كلمة ’لا‘. يد الثائر الفلسطينيّ القتيل تندلع من قبرها كالنبتة، حاملة علم فلسطين. الأطفال والفتيان والنساء والرجال تتطوّح أيديهم حرّة طليقة كالعواصف وهي تقذف المغتصبين بالحجارة، لكنّ أرجلهم ليست سوى جذور أشجار عنيدة تندفع بعيدًا في أعماق الأرض.

ذلك هو ناجي العلي، رجل حَمَلَ في صقيع غربته الطويلة دفءَ تراب فلسطين – كامل تراب فلسطين – وامتزج به حتّى صارا شيئًا واحدًا.

من هذه الزاوية يبدو البون الشاسع بين الشهيد الأبيّ والشاهد الذليل، بين القتيل الحيّ والقاتل الميّت، بين القمّة والمستنقع، بين أن تكون فلسطين هي فلسطين بكلّ حبّة رمل وكلّ حبّة قلب... وبين أن تكون مجرّد مخفر وبساط أحمر وقطيع من الجندرمة.

ما أبشع مَنْ يأتي فلسطين سائحًا، يتقلّب فوق ترابها وقلبه فارغ منها إلى حدّ الاختناق! وما أعظم مَنْ ياتي فلسطين سابحًا في فراغ المنفى وقلبه ممتلئ بها إلى حدّ التنفّس.

في موازاة ذلك الوطن الماشي على قدمين لا تزال تمشي، في ذاكرة أنفاسي، رائحة التربة الطريّة المختلطة بشميم العشب النديّ، ساعة كنّا نُنْزِلُ جثمانه الطاهر في القبر المحفور حديثًا. وفي ما كان ’جوهر العلي‘، شقيقه الأكبر، يحثو التراب فوقه، كانت عيناه مغرورقتين بالدمع السخين، وكان صوته المخنوق بالعبرة الموجعة ينصبّ في سمعي كماء النار: "رحمة الله عليه... ناجي كان يحبّ رائحة الأرض".

وأمّنت على نحيبه بهزّة رأسي وانهمار دموعي. غير أنّ حسرة بحجم الكون كانت تضجّ في أعماقي مُعْولة: "ناجي... هو الأرض نفسها".

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.